مرّت الصحافة العلمية في العالم العربي بالكثير من مراحل الصعود والهبوط، ولعل ذلك أصدق ما يكون في الجانب الأفضل من العِقد المنصرم؛ إذ استشعر الصحفيون والمحررون العلميون تفاؤلاً في باديء الأمر على أثر فتح الآفاق الإعلامية الذي آذَنَت به ثورات عام 2011، فظنوا أنه سيحقق لمجال الصحافة العلمية المتخصصة نهضةً هو في مسيس الحاجة إليها.ن
بيد أن العراقيل الماثلة أمام نمو الصحافة العلمية وجودتها بالمنطقة إنما هي مثل العراقيل الحاضرة في أي مجال آخر من نواحٍ عدة، وذلك أن التغييرات في عادات الاستهلاك والتحولات الحاصلة في الإعلام الرقمي - حتى أتت على المؤسسات الصحفية التقليدية واضطر كثير منها إلى استبعاد التغطية العلمية استبعاداً جوهرياً – قد أثرت تأثيراً سلبياً في بعض مصادر العلوم الأوثق رأياً في مجال التغطية الصحفية العلمية بالمنطقة. ومع ذلك، فإن التحديات الماثلة أمام الصحافة العلمية بالمنطقة هي تحديات خاصة بالعالم العربي في الكثير من الحالات، أو ذات تجليات مختلفة على أقل تقدير؛ فالسياقات الثقافية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أوساط الصحافة العلمية العربية تشكل تأثيراً هائلاً في المحتوى المنشور وكيفية نشره. كما أن الخصائص الدينية والثقافية تكاد تجعل بعض الموضوعات من المحرمات، وتلكم حقيقة ترتبط ببث معلومات غير دقيقة أحياناً، وبغياب التغطية من الأصل في أحيان أخرى. ويضاف إلى ما سلف الرقابة الذاتية، وهي قضية جاثمة على وسائل الإعلام في الكثير من أنحاء المنطقة ولها أثرها في التغطية العلمية، تلك التي ينقصها في كثير من الأحيان التحليل الناقد أو تقليب النظر في المعلومات المقدمة من مصادر رسمية.ة
أفضت القيود الاقتصادية وترتيب أولويات توجيه الموارد في جُل الدول العربية إلى معدلات إنفاق ضئيلة نسبياً على البحث العلمي، وقد أدى ذلك إلى كمون الابتكار والتقدم لدى العلماء العرب بالمنطقة عند الحد الأدنى، وهو حد لا يُنبِيء إلا بالقليل من الأخبار الإقليمية العلمية المتاحة للتغطية الصحفية. غير أن هذه الحال لا تخلو من استثناءات، لا سيما في المملكة العربية السعودية التي باشرت جهداً وطنياً لتحديث الاقتصاد وتنويع موارده، وخصصت في سبيل ذلك استثمارات هائلة للبحث العلمي في مؤسساتها الأكاديمية.و
وتموج المنطقة بمتغيرات متباينة من حيث الكم والكيف والموارد المخصصة للصحافة العلمية بصفة عامة، ومن حيث بث المحتوى العلمي بصفة أعمّ؛ إذ تشير دراسة تعتزم الجامعة الأمريكية بالقاهرة نشرها إلى وجود تباين ضخم في أنماط الاستهلاك والإتاحة على صعيد الصحافة العلمية في تونس والسعودية ومصر، علماً بأن تلك التباينات معزوة إلى عوامل عدة، من بينها السياق الثقافي الاجتماعي، واللغة، والتعليم، والتدريب، وديناميات الإعلام بشقيها الوطني والإقليمي.ظ
ومن فضلة القول أن التدريب المناسب واحدٌ من القضايا الأظهر المؤثِرة سلباً في التغطية العلمية بالمنطقة، ويضاف إليها قيام مراسلين غير متخصصين في الغالب بتناول موضوعات علمية معقدة، والغياب التام لأية برامج متخصصة في الصحافة العلمية الناطقة بالعربية لمرحلة ما بعد الدراسة الثانوية.ن
ومع التطور الحاصل في المشهد الإعلامي الإقليمي، اتّجه الكثير من مقدمي المحتوى العلمي إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما موقع "يوتيوب" (YouTube). وفي حين أسهم هذا الوسَط الجديد في رأب الفجوة بعضَ الشيء، إلا أنه ما زال محاطاً بمحددات ملموسة؛ ذلك أن انعدام الإشراف على منصات التواصل الاجتماعي يسمح ببث محتوى يفتقر - في الغالب - إلى المراجعة أو التمحيص من جانب الخبراء المتخصصين، وهذا واقع لن يفضي إلا إلى نشر مزيدٍ من المعلومات المغلوطة أو المتحيزة.ن
وإدراكاً من الجامعة الأمريكية بالقاهرة للتحديات الماثلة أمام الصحافة العلمية العربية ونشر المحتوى العلمي عموماً، عمدت الجامعة إلى إطلاق مبادرة للصحافة العلمية ضمن احتفالات الجامعة بمئويتها. تأتي المبادرة نتاجاً للتعاون بين ناشر دورية Arab Media & Society (أي: مركز كمال أدهم للصحافة التليفزيونية والرقمية) ومكتب الرئيس الأكاديمي المشارك للأبحاث والابتكار والإبداع بالجامعة؛ ومن ثم، يعد هذا العدد الخاص من الدورية – الصادر بعنوان "Media & Science" (الإعلام والعلوم) – أحد مكونات المبادرة المتشعبة التي تضم أيضاً "الملتقى العربي للصحافة العلمية" الذي عُقِد على مدار يومي 8 و9 من مارس/آذار 2020؛ إذ حقق الملتقى اجتماعًا للعاملين بالصحافة العلمية وناشريها وباحثيها وطلابها وأصحاب الشأن الآخرين من مصر والمنطقة والعالم أجمع؛ بغية مناقشة التحديات والممارسات المثلى ومستقبل الصحافة العلمية بالمنطقة. وقد تمخضت فعاليات المنتدى على مدار يومي الانعقاد عن توصيات كثيرة، من أهمها: وضع مناهج أكاديمية وتقديم تدريب أكاديمي في مجال الصحافة العلمية، والارتقاء باعتبارات الكم والكيف في مخرجات الصحافة العلمية من خلال التعاون مع أصحاب الشأن وتحفيز النشر والمذيعين بالمنطقة؛ وإيلاء المزيد من الاهتمام بالعلماء والمبتكرين العرب الأفذاذ؛ واستضافة منتدى الصحافة العلمية العربية بصفة سنوية؛ واستحداث مطبوعة متخصصة مهمتها استقصاء الصحافة العلمية في المنطقة. ن
إن هذا الإصدار لهو خطوة أولى على طريق تشجيع المزيد من البحوث المهتمة بالصحافة العلمية وبث المحتوى العلمي في المنطقة، وهي أحوج ما تكون إلى ذلك. ومن ثمّ، تطالعون في الصفحات التالية أوراقاً بحثية تبحث في موضوعات من قبيل الإعلام والمحتوى الصحّي في مصر، والملامح الدقيقة لعرض الموضوعات العلمية الجدلية في سياق ديني، واستقبال الجمهور لأخبار فيروس "كورونا"، ومحو الأمية العلمية، وتغطية وسائل الإعلام التقليدية للمساعي العلمية العربية، وأثر وسائل التواصل الاجتماعي في بث المحتوى العلمي بالمنطقة، والتحليل العام لمشهد الصحافة العلمية في المنطقة، والأمل معقود على أن تجدوا هذا الإصدار ماتعاً في مادته، ثرياً بمعلوماته.ى