مقدمة
مع تعرض المجتمعات على اختلاف مستويات تقدمها أو تأخرها، لموجات من الأمراض المزمنة والأوبئة، تثار إشكالية التناول الإعلامي المتخصص للشأن الصحي والطبي في عالمنا العربي، وما يتعلق به من أمراض وإصابات وعدوى وتشخيص ومواجهة وعلاج، وتثير تلك الإشكالية الكثير من التساؤلات الجديرة بالبحث وصولًا إلى الدور الفعال للإعلام في تناول هذا الشأن بالشكل الذي يسهم في زيادة معارف الجمهور ورفع درجة الوعي الصحي وتصحيح السلوكيات الصحية والطبية الخاطئة، وضمان تقديم العرض المتوازن للحقائق والمعلومات خاصة في أوقات الأزمات.
فقد انتشرت في السنوات الأخيرة بكثرة عناوين من نوعية: "حقيقة مرض فلان"، "حقيقة الحالة الصحية للفنان س"، "حقيقة وفاة السياسي فلان" خاصة في الإعلام الرقمي الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، لتثير معها بعض التساؤلات حول مفهوم تلك الحقيقة ومن يمتلكها؟ وإن كان هناك حراس للحقيقة فمن أين تأتي المعلومات المغلوطة/المزيفة فيما يتعلق بالصحة والمرض والعلاج، في وسائل الإعلام الرقمي عامة ووسائل التواصل الاجتماعي على وجه التحديد؟، وتأثير ذلك على ثقة الجمهور في مصداقية المحتوى ومدى قبوله أو عدائه لوسائل الإعلام نتيجة لفقدان الثقة وغياب المصداقية، والدور المنتظر من الإعلام المتخصص في تقديم الحقائق وتقليص الشائعات والأكاذيب فيما يخص صحة البشر ومرضهم، خاصة إذا تعلق الأمر بتناول بعض القضايا الصحية ذات الحساسية الاجتماعية، وهل يؤثر التناول الإعلامي الاستقصائي للشأن الطبي في طبيعة عرض المعلومات الدقيقة والوصول إلى الحقائق التي ينشدها الجمهور ويؤمن بها الوسط الطبي؟ وما يضمه من مؤسسات طبية ومراكز بحثية وعلماء وباحثين، ودراسات وبحوث وتقارير ربما يساء التعامل الإعلامي معها وتفسيرها على نحو مغاير للحقيقة؛ ما يؤدي إلى الإضرار بالمجتمعات ويعرض صحتها وسلامتها للخطر، وتلك هي محاور هذه الورقة التي سنحاول تناولها بالتفصيل في النقاط التالية.
إشكالية الإعلام المتخصص
لأننا نعيش عصر التخصص بل والتخصص الدقيق في كل شيء يتعلق بحياتنا، وصحتنا ومرضنا، طرح العلماء والباحثون قبل الإعلاميين ضرورة وجود إعلام طبي وصحي متخصص يتناول الشأن الصحي وفق آليات ومعايير محددة، ودخل الإعلاميون على الخط في هذا النقاش قبل عقود لينتصروا للمهنة والمهارة الإعلامية أولًا، والإلمام بالعلوم والمعارف ومنها العلوم الطبية والصيدلانية الدوائية العلاجية ثانيًا، لتلافي مشكلات لا حصر لها تنجم عن غياب التخصص، ومع كل أزمة صحية عالمية أو إقليمية أو محلية يتجدد طرح إشكالية الإعلام الصحي المتخصص للنقاش، خاصة في ظل حالات التخبط وتفشي المعلومات الكاذبة والمغلوطة بشأن بعض الأمراض والأوبئة، واللعب على الأوتار العاطفية واستمالات تخويف الجماهير بشأنها واعتماد الإثارة والمبالغة الإعلامية Media Hype نهجًا في التناول الإعلامي، مثل الربط بين بعض الأطعمة وأنواع بعينها من السرطانات، أو الربط بين أورام الثدي والرحم لدى المرأة وبعض خامات وأنواع الأقمشة والملبوسات النسائية من دون تقديم الأدلة العلمية الكافية، وبالمثل الربط بين بعض المشروبات التي توصف بالسحرية، والقضاء على السمنة وإزالة شحوم البطن في وقت قياسي.
ويحمل بولكنجهوم (1998) الأوساط العلمية والطبية المسؤولية كاملة فيما آلت إليه التغطيات الإعلامية للشأن الصحي من تراجع؛ إذ يرون أن المجتمع العلمي مجتمع منعزل بشكل ما، فحضارتنا لا تهتم بالأخذ بجد الأمور العلمية، ناظرة إليها على أنها أمور صعبة المنال، وطريقة تعامل الصحف ووسائل الإعلام مع الإنجازات العلمية مشوبة بالسطحية والإثارة، وغالبًا النزوات، تجري وراء أمور مشكوك في صحتها أو حوادث هامشية تاركة الجسيم من الأحداث، وغالبًا لا تحظى الكتب التي تهدف إلى تعريف العامة بالأفكار العلمية، خارج المجلات المتخصصة، إلا بالقدر الضئيل من الاهتمام، إن لم يكن التجاهل.
وكما يعول على التناول الإعلامي للشأن الصحي في زيادة فهم الجمهور ورفع درجة وعيه وتصحيح سلوكياته، يمكن أن يحدث العكس متى افتقد هذا التناول للمعلومات الدقيقة، والمعالجة المهنية المتوازنة لجميع جوانب الموضوعات الطبية المطروحة؛ وقد ذهبت دراسة الشهاوي (2016) إلى أن التغطية الصحفية تثير المخاوف بشأن تأثيرها على فهم الجمهور للقضايا الطبية والصحية وبشكل أكبر بسبب تأثيرها على اختيارات وسلوكيات الأفراد التي تؤثر بدورها على الصحة الشخصية والعائلية؛ ومن ثم الصحة المجتمعية، ويشكو الباحثون والممارسون غالبًا من أن نهج وسائل الإعلام ينتج عنه سوء الفهم وخطأ في أطر المعلومات والمناقشات الطبية والصحية، وفي الواقع فإن المجتمع الطبي لديه مصطلحان لهذه الأنواع المختلفة من الخطاب أولهما: اللغة الموضوعية التي تتضمن علامات للمرض قابلة للقياس، ويمكن التحقق منها، وتنقل هذه اللغة من خلال أصوات موثوقة من الأطباء ومقدمي الخدمات الصحية، والآخر: لغة غير موضوعية، وتغطي التجارب الداخلية للمرض، وغالبًا ما تهتم الصحف باللغة غير الموضوعية وتوظف إطار الاهتمامات الإنسانية بجعل القصة الصحفية ذات طابع شخصي من خلال إعطائها وجهًا انسانيًا واستدعاء الاستجابات العاطفية، وهو ما يزيد مقدار اهتمام القراء بالموضوع ويؤثر أيضا على استجابتهم.
يتحفظ الخبراء على تعامل وسائل الإعلام مع المعلومات الطبية، ويرون أن هذه الوسائل بدلًا من أن تكون أجهزة لنقل المعلومات للجمهور أصبحت وسيلة تأهيل لبعض الباحثين متواضعي المستوى وأداة لنشر أبحاث ومعلومات طبية من مصادر غير موثوق بها، ولا تتوافر بها معايير الجودة المتعارف عليها في الأوساط الطبية، وهي نتيجة لذلك تنشر كل ما يبث عن قواعد البيانات الالكترونية ووسائل الإعلام العام؛ مما خلق حالة من الشك وعدم المصداقية فيما ينشر من أبحاث علمية أو نتائجها.
وقد انتقد جمع كبير من العلماء والأطباء إقدام وسائل الإعلام على تناول الأبحاث العلمية قبل نشرها وتحكيمها بالدوريات المعترف بها، ودار جدل كبير في هذا الشأن بين العلماء والإعلاميين؛ حيث يحرص العلماء على توفير قدر أكبر من السرية وضمان حد أدنى من دقة المعلومات المنشورة أو المذاعة، في وقت يبرز الإعلاميون اعتبارات السبق الصحفي ويدافعون عنه من منطلق إتاحة حق الجمهور في الاتصال والمعرفة والحصول على المعلومات من مصادرها في أي وقت، محمود (2008).
وانتقد بعض العلماء اهتمام وسائل الإعلام أحيانا بإضفاء تأكيد غير مبرر على نتائج جديدة مشكوك فيها، ويوجه النقد لوسائل الإعلام لاستخدام تلك النتائج لتأكيد السبق الإعلامي، في حين يعاني البعض الآخر من تضخيم المخاطر الصحية.
وخلص حسن (2003) إلى أن الباحثين الذين يلجأون دائما لإجراء المقابلات أو عقد المؤتمرات الصحفية حول نتائج الأبحاث، يتهمون الإعلام بالتغطية الفاترة لتلك النتائج ويعزون ذلك للافتقار للمعارف الطبية والعرض غير الدقيق من قبل الإعلاميين. من ناحية أخري يتهم الإعلام الباحثين والأطباء بالافتقار للقدرة على التعبير عن أنفسهم بلغة مبسطة، وكذلك وضع قيود على عملية الحصول على نتائج البحث ونشرها، ومن الواضح أن الطرفين لا يتحدثان لغة مشتركة؛ ولذا فإن اللائمة تقع على الطرفين.
وقد رصدت دراسة دبوس وعباس (2003) أهم المآخذ على أداء الإعلام في تناول الشأن الطبي والصحي في مصر نوجزها فيما يأتي:
- المبالغة والتضخيم في إبراز الأخطاء المهنية لبعض الأطباء، سواء فيما يتصل بإجراء العمليات الجراحية أو توصيف العلاج أو خلاف ذلك، وخطورة ذلك تكمن في الانطباعات السيئة التي تتكون لدى الجمهور وميلهم إلى تعميم ذلك على كل الأطباء.
- التركيز على التجاوزات الأخلاقية لبعض الأطباء مع مرضاهم، ورغم الإقرار بأن هذه أخطاء لا ينبغي التعامل معها بالتسامح؛ فإن النشر فيها يسيء للمهنة وينبغي تناوله بمراعاة المسئولية الاجتماعية المترتبة على النشر.
- التركيز على المعالجات المرتبطة بموضوعات طبية وصحية على أسماء طبية، فالإعلام هو أحد الوسائل الأساسية التي تصنع الأسماء اللامعة، وفي تركيز الإعلام على أسماء بعينها حرمان لأسماء أخرى من حقها أن يعرفها الجمهور ويستمع إلى آرائها.
- اهتمام الصحف - خاصة الصفراء - بالدجل والشعوذة والخرافات على حساب قيمة الطب والعلم في حياتنا المعاصرة، وهو ما من شأنه التأثير في أنصاف المتعلمين والمثقفين سلبيًا.
- عدم تقديم التوصيف الدقيق لأعراض بعض الأمراض في المعالجة الصحفية وتقديم أعراض عامة، وكذلك وصفات علاجية ونصائح عامة قد لا تلائم حالات بعض المرضى.
- المبالغة في تقديم المزايا التي تتمتع بها بعض العقاقير التي تعد دعاية غير مباشرة لهذه الأدوية يترتب عليها استخدام البعض لها من دون استشارة الطبيب وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر.
- المبالغة في تقديم الروشتات الجاهزة لبعض أمراض العصر أو تقديم نصائح بتناول بعض الأغذية التي من شأنها أن تخفف المرض أو تقضي عليه، وتكمن مخاطر ذلك في إضعاف العلاقة بين الطبيب والمريض. فبدلًا من استشارة الطبيب يمكن الاستعاضة عنه بما يقدم في وسائل الإعلام.
- المبالغة في تبسيط المعلومة الصحية المقدمة لجمهور وسائل الإعلام حول العقاقير والاكتشافات الطبية الجديدة بما يفقدها معناها الحقيقي، خاصة إذا تم التبسيط علي يد محرر غير متخصص.
- بث الرعب في نفوس الجماهير من خلال التقديم المبالغ فيه للآثار السلبية الجانبية المترتبة على الإصابة ببعض الأمراض.
- هناك مشكلة جماعية يشترك فيها بعض الأطباء وشركات الأدوية والإعلام حين تسخر الوسائل للدعاية لمنتج دوائي بعينه، وتستضيف أساتذة بأعينهم للدعاية للدواء والدعاية الشخصية لذواتهم من دون الالتفات لآلام المرضى.
وإذا كان هناك اتفاق عام على أهمية الإعلام في حياة الشعوب والدول على اختلاف درجات وعيها وتميزها، فإن أهمية الإعلام المتخصص تصبح قضية لا جدال فيها، وتصبح عملية توظيف وسائل الإعلام في هذا المجال، لا تخرج عن طبيعة الدور العام والمهم لهذه الوسائل.
ويعرف بدران (2011) الإعلام المتخصص بأنه رسالة ما تتخذ أشكالا ووسائل مختلفة مقروءة، مسموعة أو مرئية، بهدف التعبير عن موضوع ما، يتسم بالاعتماد على الأبحاث والدراسات ذات التخصص الدقيق، أو موجه لفئة أو جمهور محدد أو كليهما معاً، في إطار أهداف، ووظائف محددة تتمثل في الأخبار، التثقيف، التعليم، الترفيه.
ويعرف أيضًا بأنه نمط إعلامي معلوماتي يتم عبر وسائل الإعلام المختلفة ويعطي جلّ اهتمامه لمجال معين من مجالات المعرفة، ويتوجه إلى جمهور عام أو خاص، مستخدمًا فنون الإعلام المختلفة من كلمات وصور ورسوم وألوان وموسيقى ومؤثرات فنية أخرى، ويقوم معتمدًا على المعلومات والحقائق والأفكار المتخصصة التي يتم عرضها بطريقة موضوعية.
ولا يعني وجود إعلام عام وإعلام متخصص أن الأساليب العامة لكل منهما تختلف عن الأخرى، وأن كلا منهما يتجه في أداء دوره ومهامه وأهدافه مستعينا بوسائل وسبل تختلف عن الآخر بل إن كلا منهما يستخدم الأساليب والسبل نفسها مع مراعاة خصوصية وطبيعة كل نوع.
تتضح أهمية الإعلام المتخصص من تعاون وسائل الإعلام مع المتخصصين في المجالات المختلفة بتطويع العلوم المختلفة لخدمة المجتمع. فالمجتمع البشرى يزخر بالمشكلات التي تتطلب المواجهة والحل باستخدام العلم وتعاون أفراد المجتمع من المتخصصين على أداء دورهم لحل هذه المشكلات على أساس معرفتهم بها. وسبيل الفرد العادي الذي يشكل السواد الأعظم من الجمهور إلى هذه المعرفة هو وسائل الإعلام المختلفة.
تتضح أهمية الإعلام المتخصص في الارتباط بين المجالات المعرفية المختلفة ووسائل الإعلام؛ ذلك أن غياب هذا الارتباط يفقد المجتمع عنصرًا أساسيًّا من العناصر المطلوبة لوعيه وتقدمه، ويشكل الإعلام المتخصص مدخلًا مناسبًا إلى ترقية العقول، وبقدر البساطة والصدق في أسلوب التناول والعرض لموضوعات الإعلام المتخصص، يكون الترحيب والقبول والتفاعل مع ما تطرحه وسائل الإعلام من موضوعات.
ويعمل الإعلام المتخصص على تضييق الهوة بين الثقافة العامة والمعرفة العلمية التخصصية، التي ظلت مدة طويلة حكرًا على المتخصصين في مجالها، ويشكل الإعلام المتخصص علامة من علامات انتقال المجتمعات من المرحلة التقليدية إلى مرحلة أكثر تطورا، وانتقال الممارسة الإعلامية من الشكل التقليدي إلى شكل أكثر عصرية، يتسم ويحترم التخصص في المجالات المختلفة.
ويوفر الإعلام المتخصص للمتخصصين فرصًا متعددة لنشر دراساتهم والتعبير عن أفكارهم، وتسليط الضوء على إبداعاتهم وابتكاراتهم (بدران 2010).
المعلومات المغلوطة والمزيفة حول الصحة/ من يمتلك الحقيقة
وأمام الوفرة المعلوماتية الهائلة التي تلاحق الجمهور وتحاصره على مدار الساعة عبر وسائل الإعلام التقليدي والجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، يصبح من المهم التوقف عند مفهوم البيانات والمعلومات والحقائق مقابل الآراء والاجتهادات والتوقعات بل والتأويلات والتفاسير المتعددة للمعلومة الواحدة داخل الخبر أو التقرير، وفي حال تناول الشأن الصحي والطبي يتكرر السؤال الشائع عن مصدر المعلومات، خاصة في أوقات الأزمات الصحية والأوبئة؛ إذ تنتشر العناوين الصحفية السابق الإشارة إلى عينة منها، مثل "حقيقة الحالة الصحية لرجل الأعمال فلان" و"حقيقة مرض السياسي فلان"، وتتعدد تلك العناوين التي تتصدرها كلمة الحقيقة، في وقت تظل الحقيقة هي القيمة الصحفية والإنسانية الغائبة عن مثل هذه النوعية من التغطيات والمعالجات الإعلامية.
وقد مثلت جائحة كورونا اختبارًا عمليًا للدقة المعلوماتية حول المرض وطرق انتشاره وأساليب العدوى وسبل الحد منها، والبروتوكولات الصحية المعتمدة والإجراءات الاحترازية والوقائية للحد من تفشي العدوى، إضافة إلى برتوكولات العلاج حال الإصابة بكورونا، ومعلومات أخرى حول فعالية اللقاحات مع الفيروس في مراحله الأولى ومع متحوراته المستحدثة ومنها متحور دلتا الذي تفشى في الهند مخلفًا حالات إصابة وعدوى ووفيات تقدر بمئات الألوف، في وقت قدرت منظمة الصحة العالمية في إحصائية محدثة لها تجاوز أعداد المصابين بفيروس كورونا حول العالم مائتي مليون نسمة، فيما تجاوزت الوفيات الأربعة ملايين حالة وفاة بمختلف بلدان العالم.
ولعل من أبرز أسباب غياب الحقائق وانتشار الأكاذيب والشائعات والمعلومات المغلوطة بشأن الحالة الوبائية لفيروس كورونا محليًا وعربيًّا وعالميًّا، وعدم استقاء المعلومات من مصادرها المتخصصة، والندرة إلى حد الغياب التام للمحرر الطبي المتخصص في تغطية الشأن الصحي خاصة في العالم العربي؛ إذ كشفت دراسة محمود (2020) فيما يتعلق بمدى تخصص مصادر المعلومات المتضمنة في المحتوى الصحي المتعلق بكورونا، تصدر المسؤولون الحكوميون مصادر التصريح والبيانات الواردة في الغالبية العظمى من الموضوعات التي تناولت جائحة كورونا، وبنسبة بلغت 35.5% في المواقع مجتمعة، وقد لاحظ الباحث، حرص المواقع العربية بدرجة أكبر على الرجوع للمصادر الرسمية مقارنة بالمواقع العالمية التي أبدت حرصًا على الرجوع للمصادر المتخصصة في القطاعات الطبية والصحية والعلاجية وما يندرج تحتها من معامل ومختبرات ومراكز بحثية وجامعات، وقد انعكس ذلك على الثراء المعلوماتي في التغطيات بالمواقع العالمية مقابل الضعف حد الفقر المعلوماتي بالمواقع العربية.
وقد تنوعت المصادر الرسمية بين المسؤولين الحكوميين المحليين والدوليين، ومصادر وزارات الصحة، ومنظمة الصحة العالمية، والبرلمانات والنواب، والمحافظين وحكام الولايات ومسؤولي الأمن.
وجاءت الطواقم الطبية وما تضمه من أطباء ومديري مستشفيات في المرتبة التالية، وقد كانت المواقع العالمية هي الأكثر حرصًا على الرجوع للأطباء والمتخصصين بنسبة تفوق المواقع العربية خاصة في موقع "الجارديان" وقد تركز مصدر المعلومات في كلية إمبريال كوليدج المختصة والفريق الطبي برئاسة نيل فرجسون، وجاء بعده موقع "يواس ايه توداي" وقد تركزت مصادر معلوماته في: جامعة جونز هوبكنز، ومراكز التحكم والوقاية من الأوبئة (CDC)- Centers for disease control and prevention. وأنتوني فاوتشي كبير أطباء الأمراض المعدية بأمريكا، ومنظمة الصحة العالمية وغيرها.
واعتمد جميع المواقع على الجمهور العام مصدرًا للمعلومات Crowd Outsourcingفي القصص المدعومة بالبيانات وبعض مقاطع الفيديو بنسبة 8٬2% لجميع المواقع، وكانت نسبة الاعتماد على الجمهور العام أكبر في المواقع العربية مقارنة بالمواقع العالمية، وجاء العلماء والباحثون في المرتبة الخامسة، إلا أن المواقع العالمية تميزت في درجة اعتمادها على هذا المصدر في إثراء قصصها المدفوعة بالبيانات، وأشكال صحافة البيانات الأخرى وبفروق كبيرة عن المواقع العربية.
واحتل الممرضون والمسعفون المرتبة السادسة مصدرًا لمعلومات صحافة البيانات في المواقع مجتمعة وبنسبة 7%، وأيضًا كانت الصدارة من نصيب "المواقع الإلكترونية العالمية"، وجاء ممثلو شركات الأدوية والمستلزمات الطبية في المرتبة السابعة مصدرًا للمعلومات بجميع المواقع وبنسبة بلغت 4٬8%.
واحتلت التقارير والدراسات والبحوث المرتبة الثامنة بين مصادر معلومات صحافة البيانات، وربما يرجع ذلك لحداثة الإعلان عن الفيروس وتحوره المستمر، في حين تحتاج الدراسات العلمية المخبرية والتجارب السريرية فترة أطول من التجريب والاختبار والتحقق والثقة فيما تتوصل إليه من نتائج. وقد كشفت الدراسة تفوق المواقع العالمية في الرجوع للدراسات والتقارير والبحوث مقارنة بالتراجع الكبير في اعتماد المواقع العربية على هذا المصد، وهي نتيجة كاشفة أخرى تعكس التخصصية والثراء المعلوماتي لهذه المواقع، وأخيرًا جاء في المرتبة الثامنة الاعتماد على الإعلاميين والمشاهير مصدرًا لمعلومات صحافة البيانات حول كورونا وبنسبة بلغت 2٬8% للمواقع مجتمعة، وكانت الصدارة في ذلك من نصيب المواقع العربية التي توسعت في الاعتماد على المشاهير والإعلاميين مقارنة بالمواقع العالمية.
وسائل التواصل الاجتماعي والصحة / فقدان الثقة في مصداقية المحتوى
لا ينكر المتابعون لفاعلية وسائل الإعلام القديمة والجديدة الرقمية، الدور الكبير الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، على مدار الأربع وعشرين ساعة، ولا يقاس هذا الدور فقط بمعدل انتشار هذه الوسائل وكثافة استخدامها، والساعات التي يستغرقها الجمهور معها، وإنما يمتد الأثر إلى المحتوى الذي تروج له، وبعضه جاد وهادف، وكثيره يفتقد الدقة والموضوعية والتوازن والصدق، وأغلبه يروج لمقولات مغلوطة ومعلومات كاذبة وشائعات تحركها بقصد ووعي أو بغير وعي مجموعات بشرية في الداخل أو الخارج، مستفيدة من خصائص ثراء الوسيلة كاملة؛ حيث السرعة والفورية والانتشار وسهولة الاستخدام والطابع الشخصي، واللغة التي باتت في متناول الجميع على اختلاف المستويات التعليمية والثقافية والاجتماعية، وإزاء هذه السيولة، باتت شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي أداة نشطة جدًا في تداول المعلومات الطبية والصحية، خاصة في أوقات الأزمات.
وقد أكدت دراسة عبد الحافظ (2016) أن الشبكات الاجتماعية في مقدمة وسائل الإعلام الجديدة من حيث الاعتماد عليها مصدرًا للمعلومات الصحية.
في حين انتقدت دراسة الفرم (2017) حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التوعية الصحية لمرض كورونا، التي تناولت الدراسة بالتحليل حسابات المدن الطبية السعودية على يوتيوب وفيسبوك وتويتر ومدى استخدامها في التوعية الصحية ضد وباء كورونا متلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS الذي كان قد ضرب المملكة العربية السعودية وتحديدًا مدينة جدة في عام 2012 وأطلق عليه إعلاميًّا شبيه سارس أو سارس السعودي، انتقدت الدراسة غياب وضعف استخدام المدن الطبية السعودية ومستشفياتها في توظيف المنظومة الاتصالية الحديثة ومنصاتها المتنوعة، خاصة في التوعية ضد وباء كورونا، وضعف التواصل مع المجتمع المحلي بشأنه، إضافة لغياب توظيف هذه المنصات في تعزيز الثقافة الصحية والطب الوقائي.
في الوقت نفسه كشفت دراسة أبو سنة (2015) حول علاقة التعرض للصحف السعودية الورقية والإلكترونية بمستوى المعرفة بمرض كورونا، تفوق الصحف الإلكترونية على مثيلاتها الورقية من حيث اعتماد القراء عليها مصدرًا للمعلومات الصحية المتعلقة بمرض كورونا أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية التي ضربت السعودية في 2012، واحتلت صحيفة سبق الإلكترونية المرتبة الأولى تلتها صحيفة عكاظ في تزويد القراء بالمعلومات الصحية عن المرض، وقد أرجعت عينة الدراسة الميدانية ذلك إلى سهولة التعرض للصحيفتين، وكشفت الدراسة وجود فروق دالة إحصائيًا بين مستوى اهتمام المبحوثين بمرض كورونا ومستوى معرفتهم بالمرض، وأنه كلما زاد الاهتمام زادت المعرفة المتعمقة والكلية بالمرض.
ورغم الدور الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي في تقريب المسافات وتوسيع نطاق التواصل الإنساني وسرعة نشر وتداول ومشاركة المعلومات، فإن انتقادات حادة لاحقت هذه الوسائل فيما يتعلق بمستوى الثقة في مصداقية المحتوى الصحي والطبي الذي تقدمه عامة، والذي برز بوضوح مع انتشار جائحة كورونا، نتيجة لانتشار الأكاذيب والشائعات والمعلومات المغلوطة، والاعتماد على الاثارة الإعلامية Media Hype والمبالغة والتخويف أو التهوين والتقليل من خطورة الفيروس؛ ما أدى إلى خروج الكثير من المنصات والأجهزة بعدة دول عربية، لا دور لها سوى نفي الشائعات والأكاذيب المتعلقة بالبيانات والمعلومات المنتشرة بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي حول الصحة عامة، وحول وباء كورونا – كوفيد 19 على وجه التحديد.
وقد نوهت شبكة الإذاعة البريطانية (بي بي سي 2020) في تقرير موسع لها إلى هذه المخاوف؛ حيث أكدت أنه من بين معالم الواقع الجديد، الذي أفرزته أزمة تفشي وباء كورونا في أنحاء العالم، كان ذلك الاختبار القوي لوسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت سمة واضحة لا ينكرها أحد في العالم المعاصر.
وبقدر ما أسهمت تلك الوسائل الجديدة، في تخفيف وطأة أزمة التواصل المباشر بين البشر، بفعل المخاوف من تفشي الفيروس، بقدر ما بدا من وجهة نظر كثيرين أنها فشلت في اختبار المصداقية.
ولأن آفة الأخبار هم رواتها، فإن جمهور وسائل التواصل الاجتماعي يتحمل جانبًا كبيرًا من المسؤولية فيما يجري الحديث عنه من جوانب سلبية، أفرزها استخدام تلك الوسائل خلال الأزمة، من نشر أخبار مفبركة، إلى نشر شائعات، إلى سعي لبث الخوف والذعر في نفوس الناس، الذين وضعتهم الأزمة في حالة من القلق، يدفعهم للتشبث بأية معلومة ربما تكون في أساسها غير صحيحة.
وتؤثر مصداقية الخبر الطبي من الموضوعات على عدة جهات فاعلة في الوسط الإعلامي والطبي، كما أن المشاكل التي تتعلق بالمصداقية تتصل بعوامل ومعايير عديدة في مقدمتها مصداقية المحتوى ومصداقية القائم بالاتصال ومصداقية مصدر المعلومة، وتتلخص عند البعض في المبالغات أو حذف الكلمات أو عدم معالجة الأمر بطريقة علمية صحيحة، أو عدم مراجعة الموضوع قبل نشره، أو اختيار توقيت النشر، فالمصداقية عندما تُفقد يكون لها آثار سلبية كبيرة على الأطباء.
وقد اختبرت الدراسة الميدانية التي أجرتها عبد العزيز (2018) على عينة من الأطباء، مدى تمتع وسائل الإعلام بالمصداقية من عدمه في معالجتها للشؤون الطبية والصحية من وجهة نظر الأطباء؛ وتوصلت إلى أن 80% من الأطباء يرون أنها لا تتمتع بالمصداقية مطلقًا، ويرجع ذلك إلى انتشار الشائعات الصحية والأخبار الطبية الكاذبة والمبالغة والتهويل تجاهها، وأيضًا غياب الاشراف الطبي والصحي على كثير من المواد المنشورة بما يسمح بوجود الكثير من التجاوزات، وعدم دقة المعلومات في كثير من الوسائل، بالإضافة إلى عدم إسناد الأخبار والمعلومات إلى مصدرها الأصلي، وعدم توفر الأمانة العلمية في تناول القضايا الطبية، والتركيز على نشر الموضوعات الصحية الغامضة والمضللة للمرضى من الجمهور، وانتفاء الأمانة وعدم الالتزام بالمعايير الاخلاقية في الكثير من المعالجات لوسائل الإعلام.
وقد استشعرت وسائل الإعلام التقليدية ومنها وكالات الأنباء العالمية، خطورة تراجع المصداقية ، خاصة مع عزوف الجمهور عن متابعة هذه الوسائل، وفق تقرير لشبكة العلوم والتنمية الدولية (عبد المحسن 2020)، فقد أكد خالد صبيح - مسؤول خدمة تقصِّي صحة الأخبار باللغة العربية في وكالة فرانس برس - أن التحقق من المعلومات قبل نشرها هو جزء أصيل من عمل الوكالة، منذ عشرات السنين، ومع ذيوع صيت مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح انتشار الأخبار الكاذبة أكثر شيوعًا، فتطور عمل الوكالة إلى حد إنشاء قسم قائم بذاته لتقصي الأخبار، فلا تُعتمد صورة أو مقطع مصور دون تقصٍّ، وتقوم الوكالة بأداء هذا الدور بحوالي 13 لغة مختلفة، وفق صبيح. تعمل الوكالة على مراقبة الأخبار ذات الانتشار الواسع على المنصات المختلفة، ثم التحقق من دقتها، وتملك صلاحية التبليغ التلقائي على الصفحة الناشرة للأخبار الكاذبة، ليس هذا فحسب، بل تُعِد الوكالة تقارير حول عشرات الأخبار الكاذبة أسبوعيًّا. يقول صبيح لشبكة SciDev.Net "لا تزال سرعة توارد هذه الأخبار أعلى من قدرتنا على كشفها؛ ولذلك سيظل الجمهور يتلقى عددًا من التدوينات غير الدقيقة".
وفي التعامل مع العلوم يبدو الأمر محيرًا ومفتوحًا للنقاش أحيانًا، فعلى سبيل المثال، أخبار نظريات المؤامرة العلمية ومنها النظريات المعادية للتطعيم أو إنكار التغيرات المناخية، تظل وجهات نظر قائمة، "فكيف يجري التعامل مع مثل هذا القضايا؟ يقول صبيح: يفضل أن يعتمد وضع الإشعارات على القضايا ذات الخطورة، ففي حال فيروس كورونا المستجد نملك شجاعةً أكبر في الإبلاغ عن نظريات المؤامرة؛ لأنه موضوع خطير جدًّا". ويضرب صبيح مثلًا بانتشار نظرية عدم وجود الفيروس أو التهوين من خطورته، له انعكاس صحي مخيف، ويهز الثقة بالمنظمات الدولية والمحلية المعنية والتقارير العلمية الموثوقة، وقد يدفع الناس إلى انتهاج سلوكيات صحية خطيرة، كالاختلاط وعدم مراعاة وجود الفيروس.
حالة فقدان الثقة التي خلفتها وسائل التواصل الاجتماعي في تناول الشأن الصحي وجائحة كورونا على وجه التحديد، ربما أعادت الاعتبار لوسائل الإعلام التقليدية التي اكتسبت ثقة ومصداقية أكبر خلال هذه الأزمة، بوصفها ما زالت تتمسك بتحري الدقة فيما تنشر وتبث وتذيع.
التناول الإعلامي للقضايا الصحية ذات الحساسية الاجتماعية
إذا كانت الدراسات العلمية قد رصدت الكثير من التحفظات على أوجه التناول الإعلامي للشأن الصحي عامة، فيما يتعلق بالمحتوى ودقته والمعلومات وكفايتها، والدقة المهنية والتوازن والثقة والمصداقية وغيرها من الأمور التي عالجتها هذه الورقة، فإن الأمر يبدو أكثر صرامة وحساسية حينما تتصدى وسائل الإعلام للتعامل مع بعض القضايا الصحية ذات الحساسية الاجتماعية، ومنها ما يتعلق بحالات تثبيت الجنس على الصفات الوراثية الغالبة عليه أو يعرف إعلاميًا بالتحول الجنسي، وبعض حالات الإصابة بمرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز وحالات من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي مثل الخرف والزهايمر، وكلها حالات ترتبط بالمحظورات والوصم الذي ربما يلحق بالمرض أو ذويهم؛ ومن ثم يكتنفها الكثير من الغموض إلى حد الإنكار، فما يصل من معلومات لوسائل الإعلام بشأن هذه القضايا، يظل مشوشًا ناقصًا أو مبتورًا أو مغلوطًا في كثير من الأحيان.
على جانب آخر، ظهرت قضايا السلوكيات في مرحلة اهتزت فيها الثوابت بفعل التقدم العلمي غير المحكوم خوفا من الاعتداء على القيم الموروثة والأصول المعترف بها في بعض المجالات والأعراف (مثل تأجير الأرحام وبنوك البويضات والحيوانات المنوية وقتل الرحمة) عندها وضعت أساسيات العلوم السلوكية للمحافظة علي سلامة الأصول والقيم والأعراف بل والحياة، وهنا لابد أن نعدد القضايا المتأثرة بالانضباط السلوكي، العلمية، الطبية، التكنولوجية، وعلى سبيل المثال:
- مجالات الإخصاب المساعد.
- مجالات بداية الحياة ونهايتها وتعريف الموت، وعلاقة ذلك بنقل الأعضاء وإصابات جذع المخ.
- البحوث في نقل الخلايا، خاصة الجذعية ونقل الأنسجة والأعضاء، وما لها من قيمة قانونية ومنافع طبية.
- التجارب المعملية والفحوصات الطبية التجريبية على الإنسان والحيوان وضوابطها.
- مشاكل تداول الأعضاء وبنوك الأنسجة وقضايا الإتجار فيها وتهريبها ومخاطرها.
- استعمال الجينات في تجديد الجنس والأصول وتشخيص وعلاج بعض الأمراض.
- التدخل الإجرائي والجيني في بعض الحالات المتقدمة والحق في إنهاء الحياةـ
- كذلك في تخطيط وتوزيع الخدمات الصحية والبيئية واستراتيجياتها وتوزيع الميزانيات على المناطق المتخلفة، تلك قضية سلوكية.
- قضية حقوق الإنسان عامة والحقوق الطبية خاصة وقضية ازدواجية الولاء عند صنع القرار الطبي.
- التعامل مع الأغذية والحيوانات والنباتات المبرمجة والمحولة وراثيا وقبولها طبيا وشرعيا.
- مخاطر إجراء التجارب الدوائية على المخلوقات قبل استخدامها في علاج الإنسان والحيوان والنبات (محمود 2008).
هذه التعاملات البيولوجية الموجهة والموصلة للحفاظ على حقوق المخلوقات كلها قضايا تؤكد قيمة سلوكيات البحث في التأثير على أساليب التعامل مع حيوانات التجارب والإنسان. كل ذلك يحتاج إلى تكاتف جميع الدول والمنظمات العالمية والجمعيات العلمية بهدف قيمة الحفاظ على الطبيعة وما تحتويه من مخلوقات وما لها من حقوق إنسانية وقيمية وتشريعية.
إن القدرة المتاحة اليوم والقادرة على توصيل نتائج التقدم تتمثل في المسئولية الأصلية لوسائل الإعلام والتعليم بداية من منظومة التعليم في كل مستوياته ومراحله أملا في تخليق كتلة علمية واعية يرجع إليها لتوفيق أوضاع المؤسسات العلمية بتخليق فئة متخصصة تسمى "السلوكيون" تكون في مسئوليتها نشرها وتوجيهها التوجهات السليمة في إطار الشرعية التشريعية والاقتصادية والقيمية للوصول إلى أنسب توليفة NORMS مقبولة لتحقيق وصول المعارف الصحيحة بتفهم وقدرة ذلك بداية لفتح حوار قومي لملاحقة المتغيرات العلمية من دون تنازل في القيم والحقوق والإيمانيات الموروثة، تلك مسؤولية وسائل الإعلام، رسالة تصل إلى مختلف طبقات الشعب بأسلوب محايد ومقبول علميًّا.
إن التطورات والمستجدات الطبية كثيرة وخطيرة وحاكمة؛ لذلك فقد اتجهت الدول المتقدمة إلى إدخال هذا التخصص في التعليم الطبي في مراحله كافة، واجتذبت إليه متخصصين من جميع فروع المهنة الطبية وقائية كانت أو علاجية أو حتى في التخصصات الدقيقة، حتى ظهرت فئات تخصصت في سلوكيات الباطنة والجراحة والأطفال وأمراض النساء وغيرها في رعاية المسنين والمعوقين والمحرومين والممتهنين (بدران 2004).
التناول الإعلامي الاستقصائي للشأن الطبي
يطرح الباحث تساؤلات حول سبل تحري الدقة في تناول الشأن الصحي والطبي إعلاميًا، وهل يمكن للتناول الإعلامي الاستقصائي أن يؤدي دوره في إيصال الحقائق وعرض المعلومات وخدمة القاريء وتحقيق أقصى درجات الفاعلية الاتصالية.
بحسب هنتر (2009)، تمثل الصحافة الاستقصائية كشف أمور خفية للجمهور، أمور إما أخفاها عمدًا شخص ذو منصب في السلطة، أو اختفت صدفة خلف ركام فوضوي من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها، وتتطلب استخدام مصادر معلومات ووثائق سرية وعلنية.
لكن قد تتبادر للذهن أية معلومات سرية، تلك التي يتعمد البعض إخفاءها فيما يخص الشأن الصحي والإجابة ببساطة تتعلق بأن السياسة غالبًا ما تتدخل وتتحكم في توجيه المحتوى حتى وإن تعلق بالشأن الصحي والطبي، ففي عام حين تفشى وباء إنفلونزا الخنازير أطلقت عليه وسائل الإعلام الأمريكية إنفلونزا المكسيك؛ الأمر الذي أدى لاعتراض سياسي كبير من جانب المكسيك لتغيير مسمى الوباء ورفض وصم البلد به؛ لما له من تداعيات سياسية واقتصادية كبيرة أدت لخسائر بالملايين حال ذيوع وترديد مسمى إنفلونزا المكسيك.
الأمر نفسه لاحظناه، حينما نشبت حرب تلاسن إعلامية أمريكية صينية بشأن انتشار وباء كورونا؛ إذ خلصت الآلة الإعلامية الأمريكية إلى اتهام الصين بإخفاء حقيقة انتشار الفيروس وتأجيل الإعلان عنه في نهايات عام 2019 إلى بدايات العام 2020 وهو ما نفته وفندته الصين، وتحدثت عن مؤامرة أمريكية للإضرار بالاقتصاد الصيني. الأمر نفسه تابعناه فيما يتعلق بالبحوث والاختبارات المتعلقة باللقاح، وتسارع الدول إلى إعلان التوصل للقاحات مضادة للفيروس نفسه.
وتذهب السنجري (2019) إلى أن الصحافة الاستقصائية investigative journalism تعد أعلى مراتب المهنية الإعلامية وفي الوقت ذاته هي أصعبها، إن معنى التقصي هو تتبع الأثر، وهو البحث والتنقيب حول قضية ما والبحث في عمقها؛ لمعرفة ما وراء المعلومات، وكشف الأمور الخفية، وهي الصحافة القائمة على توثيق المعلومات والحقائق باتباع أسلوب منهجي وموضوعي؛ بهدف كشف الخفايا وإحداث تغيير للمنفعة العامة.
ويربط Philip Mayer في كتابه صحافة التحديدPrecision Journalism بين الصحافة بمساعدة الحاسب والصحافة الاستقصائية، التي تحاول أن تتجاوز دور الصحافة التقليدي، والتي طورت من غرف الأخبار بوصفها تيارا له أدواته البحثية بل والمنهجية في المسح والتحليل الإحصائي للبيانات بوصفها صحافة كمية بالأساس، ويرىCoddington (2018) أن صحافة البيانات قد ارتدت عباءة الصحافة المعتمدة على الحاسب في الممارسة الحديثة الاحترافية وزادت عليها، وصارت صحافة البيانات هي كل نشاط يتعلق بالبيانات من حيث جمعها وتحريرها وتقديم الأخبار والقصص الإخبارية السردية المدعومة بالبيانات. في وقت تظل الصحافة المحوسبة Computational Journalism أكثر ارتباطًا بالعمل المستند إلى الخوارزميات الحاسوبية، سواء تلك المتعلقة بسلوكيات الجمهور في البحث داخل محركات البحث. أو اتجاهاتهم الشرائية أو سلوكهم الاتصالي عامة؛ ولهذا فإن صحافة البيانات هي التيار الأكثر تعبيرًا اليوم عن الممارسة الصحفية المتعمقة والمحترفة، التي تمارس في أنحاء العالم المختلفة بدرجات متفاوتة في الصحف والمواقع الإخبارية الكبرى.
وفي ضوء انتشار منصات التدوين القصير مثل Twitter وبرامج الدردشة مثل WhatsApp وكذلك الـ Facebook وInstagram وSnapchat وTelegram وانتشار المواقع الإلكترونية، أصبح تحري الدقة والبحث عن الأدلة والوثائق والتقرير وإجراء المقابلات وفحص البيانات والمعلومات Fact checking أمرًا مهمًا وممكنًا بل وضروريًا في مواجهة الزيف والكذب والمعلومات المغلوطة، وأصبحت وظيفة المتحققين Fact Checkers من ضمن الوظائف المهمة والمستحدثة في الأوساط السياسية والحملات الانتخابية، ولدى المواقع الإلكترونية وسائر الوسائط الإعلامية الرقمية، لتكذيب وتفنيد كل ما من شأنه الإضرار بمصالح الدول والأحزاب والبرامج والسياسات وكذلك المنتجات التجارية.
ويسهم التناول الاستقصائي في تعزيز شفافية الصحفيين أنفسهم؛ إذ أصبح بمقدور القراء الرجوع لقواعد البيانات الأصلية التي تم بناء القصص منها؛ للتحقق والتأكد من صدقيتها وموثوقيتها، وهذا يخدم الصحفي وصحيفته التي كانت قد فقدت الكثير من ثقة القراء في السنوات الأخيرة.
لهذا يعتقد الباحث أن التناول الاستقصائي للشأن الصحي يعد بتقديم خدمة أكثر ثراءً للجماهير والحكومات على السواء، عبر اكتشاف بيانات ومعلومات ممكن أن تصحح بعض الأخطاء أو تعالج أوجه فساد أو تحل مشكلة أو سوء استغلال للسلطة والنظام. كذلك تمارس القصص المعززة بالبيانات ضغوطًا على السلطة لاتخاذ قرارات وسن قوانين تصب في مصلحة الجمهور وتخدم اهتماماته؛ ونتيجة لهذه الأدوار المتنامية، جدد خبراء صحافة البيانات الدعوة إلى إعادة تعريف دور الصحافة في المجتمع، فلم يعد هذا الدور هو مجرد نشر القصص وتسليط الضوء على المشكلات وكشف الواقع بل تجاوز ذلك إلى طرح الحلول (Rogers 2013).
وتمثل صحافة البيانات أحد الأشكال الجديدة للصحافة الاستقصائية، وبحسب Howard (2014) فإنه في المستقبل ستصبح البيانات مصدرًا استراتيجيًا لوسائل الإعلام باختلاف أشكالها خاصة الإعلام الرقمي، متوقعًا ظهور أدوات تقنية جديدة تسهم في تعزيز دمقرطة البيانات بحيث تبقى في متناول الجميع، وأن صحافة البيانات ستصبح أكثر دقة وستطبق معايير أكثر صرامة فيما يتعلق بدقة وسلامة المعلومات والمحتوى قبل نشره، كما ستزيد التنافسية في مجال أمن وحماية البيانات التي ستصبح الأهم في ممارسة صحافة البيانات، وسيتطلب الجمهور المزيد من الشفافية في مجموعات الأخبار وخدماتها وطرق استخدامها، وفي ضوء ذلك، ستبرز عدة قضايا أخلاقية تتفاقم إلى حد الصراع حول خصوصية بيانات الجمهور وسرية معلوماته الصحية والطبية تحديدًا، وعملية تنقية وفرز البيانات والتحيزات والانتقائية فيها، ومخاطر الاعتماد على الجمهور مصدرًا للمعلومات، والتسريبات والخصوصية وأخلاقيات استخدام البيانات وقضايا أخلاقيات ممارسة العمل الصحفي، كما ستزيد وتيرة الحذر في التعامل مع البيانات، ويزيد الوعي بفرز البيانات الجيدة من السيئة، الصادقة الموثوقة من الكاذبة المضللة؛ الأمر الذي سيرتفع معه الوعي عامة بالتعامل مع المحتوى، يتضافر ذلك مع التوسع في تدريس التربية الإعلامية وسبل التعامل السليمة مع وسائل الإعلام ومواجهة الأكاذيب والشائعات.
خاتمة
استنادًا إلى الكثير من الدراسات التي تتبعت التناول الإعلامي للشأن الصحي خاصة في وسائل الإعلام الرقمي الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي، تبين للباحث الحاجة الملحة للتخصص سواء على مستوى المحتوى أو القائم بالاتصال أو المصادر ذاتها العاملة في القطاع الصحي والطبي، فالإعلامي المتخصص قادر على فهم واستيعاب المضمون الطبي الذي يتعرض له سواء في المؤتمرات أو ما يصل إليه من دراسات وبحوث وتقارير وتصريحات، يستطيع أن يتحقق منها ومن صدقها ودقتها، كما يستطيع أن يفند ما بها من أكاذيب ومبالغات، ويستطيع في مستوى مهني احترافي أوسع ممارسة التحري والتقصي لتقديم تناول استقصائي متعمق معتمد على البيانات والأدلة والشواهد والوثائق السرية والعلنية، والصور والمقاطع الصوتية ومقاطع الفيديو والمقابلات التي تثري المحتوى، وترفع الوعي والتثقيف الصحي، بديلًا عن ترديد الأقوال والمقولات غير المتخصصة، التي تفتقد إلى الأدلة العلمية والبراهين، التي يمكن تصنيفها في خانة الآراء والاجتهادات والتوقعات والتخمينات، وكلها لا مجال لها في الإعلام الاحترافي المتخصص، خاصة إذا ما اقترب من صحة الإنسان وحياته.
الأمر الآخر الذي أكدته الورقة العلمية، أنه بالقدر الذي أيدت فيه عدة دراسات، الدور السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات المغلوطة والزائفة والبيانات الكاذبة، بالقدر الذي حركت فيه المياه الراكدة لإعادة ثقة الجمهور في وسائل الإعلام التقليدية، وضاعفت مسؤوليته في تحري الدقة وتقديم المعلومات الوافية الكافية عن الشأن الصحي من مختلف جوانبه وبالعودة لمصادره المتخصصة خاصة فيما يتعلق بالقضايا الصحية المسكوت عنها وذات الحساسية الاجتماعية لارتباطها بالوصم والسمعة والمكانة، وفرضت الضغوط الإعلامية الجماهيرية على وسائل الإعلام التقليدية، التحرر من ترهلها ونمطيتها وبطء تغطياتها، عبر التحديث المستمر لصفحاتها ومواقعها الإلكترونية ومنصاتها الرقمية المتاحة على الإنترنت؛ لضمان تحقق ثراء الوسيلة الإعلامية وزيادة مستويات التفاعلية معها، خاصة في أوقات الأزمات والأوبئة الصحية، التي قد تضر السياسات الصحية للدولة بالقدر ذاته الذي تهدد فيه الشائعات والأكاذيب والمعلومات الناقصة وأنصاف الحقائق صحة الإنسان وتعرض حياته للخطر.
المراجع
أبو سنة، نورة حمدي. 2015، علاقة التعرض للصحف السعودية الورقية والإلكترونية بمستوى المعرفة بمرض كورونا. مجلة البحوث الإعلامية، جامعة الأزهر، العدد 43، يناير.
السنجري، بشري. 2019، إشكالية ممارسة الصحافة الاستقصائية في العراق، دراسة ميدانية، جامعة بغداد كلية الإعلام، متاح عبر الرابط:
https://www.researchgate.net/publication/330508967_ashkalyat_mmarst_alshaft_alastqsayyt_fy_alraq_drast_mydanyt تاريخ الوصول للرابط 24 أغسطس 2021.
الشهاوي، سماح عبد الرازق. 2017، المحتوى الصحي والطبي في المواقع الإخبارية المصرية دراسة تحليلية مقارنة بين موقع اليوم السابع وبوابة أخبار اليوم، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، 243 المجلد 16، العدد 2، الربيع.
الفرم، خالد. 2017، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التوعية الصحية لمرض كورونا: دراسة تطبيقية على المدن الطبية ومستشفياتها الحكومية بمدينة الرياض السعودية، مجلة بحوث العلاقات العامة، دورية علمية محكمة تصدرها الجمعية المصرية للعلاقات العامة، السنة الرابعة، العدد 14، يناير/مارس.
بدران، إبراهيم. 2004، السلوكيات الحيوية، ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي لأخلاقيات الإعلام العلمي في مجال البحوث البيولوجية، القاهرة: جامعة القاهرة، 8 - 9 سبتمبر.
بدران، عبد الله. 2011، الإعلام المتخصص ودوره الحصاري، متاح عبر الرابط: منتديات ستار تايمز (startimes.com) تاريخ الوصول للرابط 25 أغسطس 2021.
بدران، عبد الله. 2010، الإعلام البترولي في الوطن العربي، دمشق: دار المكتبي.
بولكنجهوم، جون. 1998، ما وراء العلم، ترجمة علي يوسف علي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة عدد 5.
بي بي سي، فيروس كورونا 2020، تقرير متاح عبر الرابط: فيروس كورونا: هل ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الذعر والخوف؟ - BBC News عربي
حسن، عز الدين عثمان. 2003، التأليف والرعاية العلمية والمساءلة بالنسبة للبحوث الطبية المنشورة في وسائل الإعلام، ورقة ضمن مؤتمر ضوابط وأخلاقيات الإعلام والإعلان الطبي، القاهرة: جامعة الأزهر، 4 - 6 فبراير.
دبوس، سونيا، عباس، عادل. 2003، أخلاقيات الإعلام الطبي بين النظرية والتطبيق، ورقة مقدمة لمؤتمر، ضوابط وأخلاقيات الإعلام والإعلان الطبي، القاهرة: جامعة الأزهر، 4 - 6 فبراير.
عبد الحافظ، نادية مـحمد. 2016، تأثير الاعتماد على وسائل الإعلام التقليدية والجديدة فى نشر الثقافة الصحية دراسة ميدانية على عينة من الجمهور المصري، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، جامعة القاهرة، كلية الإعلام، المجلد 15، العدد 2، الربيع.
عبد العزيز، لمياء مـحمد. 2018، اتجاهات الأطباء نحو معالجة وسائل الاعلام التقليدية والجديدة لشؤون الطب والصحة وتأثيراتها على مستقبل العلاقة مع المرضى - دراسة ميدانية، المجلة العلمية لبحوث الصحافة، جامعة القاهرة، كلية الإعلام، المجلد 2018، العدد 16، الخريف.
عبد المحسن، رحاب. 2020، هجمة على الأخبار الزائفة بمواقع التواصل الاجتماعي، متاح عبر هجمة على الأخبار الزائفة بمواقع التواصل الاجتماعي - الشرق الأوسط وشمال أفريقيا scidev.net.
محمود، سمير. 2008، الإعلام العلمي، القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع.
محمود، سمير. 2020، توظيف صحافة البيانات في تناول فيروس كورونا المستجد بالمواقع الإلكترونية العربية والعالمية - دراسة تحليلية، جامعة الأزهر، كلية الإعلام، مجلة البحوث الإعلامية، العدد 54 الجزء4.
محمود، سمير .2008، الإعلام العلمي، القاهرة، دار الفجر للنشر والتوزيع.
هنتر، مارك وآخرون. 2009، على درب الحقيقة،.. دليل أريج للصحافة العربية الاستقصائية.. الأردن: شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية "أريج".
Coddington, Mark. 2018. Defining and mapping data journalism and computational journalism: A review of typologies and themes. In S. A. Eldridge II & B. Franklin (Eds.), The Routledge handbook of developments in digital journalism studies, London: Routledge.
Howard, Alexander Benjamin. 2014. The Art and Science of Data-driven Journalism. New York: Tow Center for Digital Journalism. Retrieved from http://towcenter.org/wp-content/uploads/2014/05/Tow-Center-Data-Driven-Journalism.pdf.
Rogers, Simon. 2013. Facts are Sacred: The power of data. London, England, faber and faber limited.