Home / عربي / التفاعلية والهوية الثقافية لدى الشباب المصري – رؤية تحليلية

التفاعلية والهوية الثقافية لدى الشباب المصري – رؤية تحليلية

 داليا أشرف- باحثة وإعلامية مصرية.

المقدمة:

يُعدُ الجيل الذي ولد بين عامي (1980-2000م) أول جيل ينشأ في البيئة الرقمية الجديدة، وهو يتمتع بخصائص مختلفة عن أسلافه؛ إذ أحدثت الثورة التكنولوجية الحديثة تغيرا في مصادر المعلومات والمعرفة لدى الشباب في العالم كله، ومن ثم أصبحت محركات البحث على شبكة الانترنت مرجعيتهم؛ هذا التقدم أدى إلى تغيير أنماط تفكير جيل بأكمله في جميع أنحاء العالم، وبدأ يلقي بظلاله على قيم الشباب العربي ومفاهيمه وعاداته وتقاليده.

ويعد الإعلام أحد أهم روافد الثقافة؛ فهو الأداة الناقلة للثقافات بين الشعوب، ولكن ما يحدث الآن من تبدل سريع في المشهد وتطور البيئة الإعلامية الجديدة التي تتمتع بقوة تدفق فائقة للمعلومات، سواء كانت من مصادر معلومة أو مجهولة، يجعلنا نطرح في هذا المقال قضية مهمة هي: "الوضع الثقافي للشباب في ظل تطور سريع لا يعرف حواجز زمنية أو مكانية"، وسنتحدث عن المناخ العام الذي أدى إلى تصدر الإعلام الجديد المشهد بين الشباب، ومراحل التغير التي طرأت على ثقافتنا المصرية -المستمدة من انتمائها العربى- من خلال هذا المجتمع الرقمي، وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج في المستقبل، قد تؤدي إلى فقدان هُويتنا الثقاقية المصرية العربية الأصيلة.

وينقسم موضوع الطرح إلى خمسة محاور:

المحور الأول: انحسار العالم الواقعي فى تأثيره على الشباب.

المحور الثاني: تعاظم استخدام المجتمع الافتراضي البديل.

المحور الثالث: الواقع الحالى لثقافة الشباب المصرى.

المحور الرابع: مستقبل الهوية العربية فى شخصية الشباب المصرى.

المحور خامسا: مفاتيح العودة إلى التوازن وسد الثغرات لحماية الهوية.

أولا: انحسار العالم الواقعي فى تأثيره على الشباب:

تملك مصر تاريخًا وحضارة عظيمة منذ آلاف السنين؛ إذ كانت رائدة للعلوم والفنون ومصدرة للثقافات علي مر العصور، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة من تجريف للثقافة في مصر؛ يجعل البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى ذلك ضرورة،  ويأتى من بين أهم تلك الأسباب تراجع دور المصادر التربوية والثقافية التقليدية، كالأسرة، والمعلم،والمؤسسات المجتمعية التثقيفية؛ إضافة لتراجع دور الحكومة في مهمتها الموكلة إلى وزارات الثقافة، والتعليم، والشباب، بما تملك من هيئات ومؤسسات، وجاء كنتيجة سريعة لهذا الغياب، تدهور جودة التعليم، وتهميش دور المثقفين والمفكرين، وتدني المضمون واللغة الإعلامية ومستوى ما يُقدم من فنون.

وقبل أن نتحدث عن الإعلام الجديد وتأثيره في مستوى ثقافة الشباب المصري، لابد أن نبين الحالة التي وصل إليها واقعنا الثقافي المعاصر من خلال عرض الأسباب التى أدت إليه.

* السبب الأول: الذي يعد أحد الركائز الأساسية للتغير هو تراجع دور الأسرة، كذا عدم إدراكهم أهمية نقل جذور وأصول الهوية العربية لأبنائهم، بل إن الأمر تحول إلى دفع الأبناء للاهتمام بثقافات الغرب وتعلم عاداتهم ولغاتهم قبل أن يمنحوهم جرعات أولية من الثقافة العربية التى تحصنهم من الامتزاج التام مع الثقافات الخارجية.

* السبب الثاني: هو تراجع التعليم في مصر؛ فبعد أن كانت مصر مقصد التعليم للطلاب من دول العالم المختلفة؛ أصبحت الآن تحتل مركزا متأخرا عربيا وعالميا في الكفاءة والجودة، ففي التقرير السنوي العالمي لتكنولوجيا المعلومات لعام (2016م) حصلت مصر على المركز (138) وهو قبل الأخير من بين (139) دولة عالميًا، ومن أبرز الأمثلة أيضا التي توضح لنا واقع التعليم المصري المؤسف - باعتراف المسئولين عن التعليم - هو تصنيف جامعة القاهرة عالميا وحصولها على المرتبة (501) من بين جامعات العالم، وفق تقرير التصنيف العالمى للجامعات  QS(2016م) المعروف بالتصنيف الإنجليزي حول ترتيب أفضل (800) جامعة حول العالم.

* السبب الثالث: هو تدهور حال قصور الثقافة المصرية، التي يبلغ عددها 99 قصرا، ومنها 17 قصرا مغلقا وفق تصريحات وزير الثقافة الحالي، فى حين تحول الباقى إلى مجرد مبان لا يمارس من خلالها أى دور توعوى أو تثقيفى، وبالنسبة للسينما كانت مصر تنتج فى سنوات سابقة 150 فيلما في العام - في فترة الستينيات والسبعينيات - ولكن حاليًا لم يتخط عدد الأفلام التى تم إنتاجها على مدار 3 سنوات من 2012 إلى 2014م عدد 85 فيلما منهم 41 فيلما فى عام 2014م، وفق إحصائيات تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فكشف التقرير أن عدد المسرحيات التى تم إنتاجها فى 2014م 41 مسرحية فقط، ناهيك عن أن معظمها يقدم محتوى فنيا هابطا لا يرتقى بالذوق العام، ولم يخرج عن هذا المستوى الرديء أغلب ما يتم تقديمه من المنتجات الفنية فى الدراما التليفزيونية والأغانى والأعمال المسرحية؛ ففى الغناء دخلت أنماط جديدة أطلق عليها "أغانى المهرجانات"، وفى الأعمال المسرحية سيطر المسرح التجارى التليفزيونى، وفى الدراما غابت الدراما التاريخية والروائية عن الساحة - إلا ما ندر-.

* السبب الرابع: هو واقع الإعلام المصري، والذى رغم انتقاله بقوة إلى عصر الفضائيات وامتلاكه كما هائلا من القنوات الفضائية، إضافة إلى المحطات الإذاعية والصحف، إلا أن المضامين الإعلامية التي تقدمها معظم البرامج، لم تسهم فى الارتقاء بالذوق العام ولا بعقلية المشاهد، لا من حيث الشكل، ولا اللغة المستخدمة، وكل هذه العوامل أدت بدورها إلى عدم وجود إطار ثقافى واضح لخلق عقول مستنيرة، وإطلاق طاقات إبداعية حقيقية تعمل على الحفاظ على تراثنا وحضارتنا العريقة المصرية والعربية، وتواكب العالم في تقدمه التكنولوجي.

ثانيا: تعاظم استخدام المجتمع الافتراضي البديل:

تزامن التراجع فى دور منافذ الثقافة النمطية المعتادة وفشلها فى التواصل مع معطيات التغير فى العالم، وانتشار الإنترنت وبداية ظهور وسائل الإعلام الجديدة، فوجد الشباب في هذه الوسائل بديلا سهلا ومتاحا، ووسيلة لتفريغ شحناتهم وطاقاتهم بحرية ودون قيود.

كشف تقرير صادر عن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عن العام 2016م، أن مصر تحتل  المرتبة الأولى على مستوى العالم العربي والـ 14 على المستوى العالمي، فى استخدام مواطنيها للـ "فيسبوك".

وقد كانت نقطة البداية قبل ذلك التقرير بـ 14 عامًا، مع دخول الإنترنت مصر عام 1992م، لكنه وقتها كان محدود الانتشار والتأثير، حتى جاءت الانطلاقة الثانية بظهور مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيس بوك" فى 2006م، وكان تأثيره أيضا محدودا للغاية خلال مرحلة البداية، ثم تطور تأثيره تدريجيا بالتزامن مع حالة الحراك السياسي والاجتماعي وظهور الحركات السياسية الشبابية التى وجدت فى هذا الفضاء مجالا متاحا للانتشار، والوصول إلى قطاعات كبيرة من الشباب، للتعبير عن أنفسهم من خلال إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعى، والتي أخذت فى التنامى حتى وصلت ذروتها مع انطلاق الشرارة الأولى لثورة 25 يناير 2011م، والتى كانت الثمرة الأولى الحقيقية لهذه الوسائل.

وفى هذا السياق أكدت دراسة بحثية بعنوان: "الثقافة الافتراضية وتحولات المجال العام السياسي"، تزايد الدور الذي أدته الشبكات الاجتماعية الافتراضية في تشكيل الثقافات الخاصة ببعض فئات وشرائح المجتمعات، كما ذكرت الدراسة - التي اعتمدت على إحصائيات لشركة "كوم سكور" المتخصصة في شئون الإنترنت - أن هناك تصاعدًا ملحوظًا في استخدام هذه الشبكات داخل المناطق التي تحكمها الأنظمة السياسية التي تتسم بدرجة ما من السلطوية مثل: أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، ومنطقة الباسفيك الآسيوية، كما رجحت الدراسة أن السبب وراء ذلك هو تزايد حجم القيود المفروضة على الحقوق، والحريات العامة في هذه البلدان، بالإضافة إلى استمرار تآكل دور الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة الرسمية.

وفى مصر – على وجه الخصوص - أسهم فى انتشار هذه الوسائل الجديدة معاناة الشباب قبل عام 2011م، والتى شهدت تهميشا لقدرات وطاقات وأفكار هؤلاء الشباب، الذين يمثلون قطاعا كبيرا من الشعب، كما زاد من لجوئهم إلى التعبير عن آرائهم ومواقفهم عبر صفحات التواصل الاجتماعى استبعادهم من المشاركة الفعالة والبناءة في مختلف مناحي الحياة اجتماعيا وسياسيا  واقتصاديا وثقافيا؛ فاستخدموا تلك النوافذ كبديل لواقعهم المنغلق.

وأدى الدور الكبير الذى أدته مواقع التواصل الاجتماعي في أحداث ثورة يناير إلى ارتفاع شدة فاعليتها بشكل حاد بعد 2011م فزاد عدد الوافدين من الشباب المصري على "فيس بوك" من 4.3 إلى 5.65 مليون شاب خلال الفترة من 15 نوفمبر 2010م إلى الأول من مارس 2011م، وفق ما ذكره "تقرير الشباب العربى لعام 2012م"، أي أن عدد المستخدمين زاد بأكثر من مليون شاب في ثلاثة أشهر ونصف الشهر، كما استمر هذا التزايد مع تطور الأحداث وزيادة التأثير، وهذا يشير إلى ما استطاعت أن تمثله تلك الشبكات الاجتماعية من آلية جديدة لاحتضان الشباب وضمان حرية التعبير والرأي، فقد وجد الشباب فيها مساحة جديدة لاستيعابهم وأعطتهم الفرصة لخلق مجال لأفكارهم، ومناخا أكثر فاعلية وأمنا.

كما أسهمت هذه الأدوات الإعلامية الجديدة في منحهم شعورًا بأنهم قوة فاعلة لتغيير الواقع وفق رؤيتهم من خلال العالم الافتراضي، والذي بات يشكل لهم حلا تقنيا للإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية، وساعدت هذه الحلول البديلة فى ترسيخ ثقافات جديدة، وهذا ما أكدته دراسات بحثية عديدة؛ حيث خلص الباحثون إلى أن الإنترنت عادة ما يستخدم للتعبير عن جوانب شخصية غير مستكشفة، ويخلق شخصية افتراضية، وفي السياق ذاته، قالت الباحثة الأمريكية "شيري توركل" المتخصصة في علوم الإجتماع والتكنولوجيا: "نستطيع أن نستخدم العالم الافتراضي للتعبير عن الواقعي".

ثالثا: الواقع الحالى لثقافة الشباب المصرى:

انطلقت الأشكال الجديدة والأنماط المستحدثة لثقافة الشباب المصرى إلى آفاق وأبعاد جديدة، بدأت بتغير محتوى الإعلام التقليدى عبر وسائله المعروفة "القنوات الفضائية" ليخلق ثقافة مهجنة وممتزجة بثقافات أخرى لم تكن متاحة ومعروضة بنفس الكم من قبل، ثم تعمقت تلك التغيرات مع دخول التكنولوجيا الرقمية والتطبيقات الجديدة للتواصل عبر الفضاء الإلكترونى والإنترنت، ومع انتشارها وتعمق أثرها تحولت أنماط الثقافة عند أعداد كبيرة من الشباب إلى المجال الافتراضى، وظهرت نتيجة لهذه التطورات ما اصطلح عليه بـ "المواطن الصحفى" أو "صحافة المواطن"، والذى أصبح يمتلك من الوسائل ما يجلعه ليس فقط مستقبلا أو ناقلا للثقافة، بل صانعا لها فى أحيان كثيرة.

(أ) الثقافة المهجنة:

كانت بداية دخول الهوية الثقافية المصرية إلى مرحلة التهجين عبر وسائل الإعلام التقليدي، التي صُبغت بشكل كبير بصبغة تجارية، وبدأت في التسعينيات من القرن الماضى تبني أفكارا جديدة تتماشى مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي فرضها عصر العولمة، وظهر ذلك وقتها في تقليد الشباب لموضة الغرب، وسماع الموسيقى الغربية، ومشاهدة الأفلام الأجنبية، وانتشار الـ "فاست فوود" أو الأكل السريع، وبدأ انتشار مفهوم المواطنة العالميةGlobal Citizenship  فى هذه الأشكال.

ورصدت دراسات عديدة أن ثقافة الشباب العربي أصبحت ثقافة مهجنة نوعا ما، وأن هذا التهجين خلق صراعا جديدا أطلق عليه صراع الأجيال، حيث قلص هذا التغير الثقافي من تأثير الآباء والمؤسسات التربوية والثقافية التقليدية، وأدى إلى زيادة تأثير الأصدقاء والثقافات الخارجة عن إطار المجتمع، حتى أن هذا النمط الثقافى الجديد وصل في تأثيره إلى مناطق كانت وقتها من المحظورات، فتغيرت -على سبيل المثال- صورة رجال الدين، وأدى إلى ظهور ما أطلق عليهم "الدعاة الجدد"، الذين استطاعوا أن يغيروا شكل وأسلوب الداعية النمطى وواكبوا الثقافة الجديدة للشباب في المظهر، وأسلوب الخطاب، وطريقة التفكير.

كذا استمر هذا المتغير فى أداء دور الباعث والمؤسس لما جاء بعده، وترك أرضا خصبة وجاهزة لاستقبال متغيرات أكثر حدة وانتشارا وعمقا، وفتح سماءً لم تستغلها النوافذ الثقافية التقليدية، حتى جاءت مرحلة "الإعلام الجديد"، الذى انطلق من ساحة الشبكة العنكبوتية "الإنترنت"، وما تضمنته من مواقع وتطبيقات خلقت مساحة ضخمة من التفاعل والتواصل، فكسرت حاجز المسافة والزمن، وعمقت هذا التغير الثقافى بشكل ملحوظ وفي وقت قياسي.

(ب) الثقافة التكنولوجية أو الثقافة الافتراضية:

بدأ الإعلام الجديد عبر تقنياته الحديثة في تشكيل مفهوم حديث للاتصال والعلاقات الاجتماعية، وخلق مصادر معرفية وثقافية مختلفة، تخترق الحدود الجغرافية بسهولة وفاعلية لدى الشباب، وزاد من تأثيره اتساع رقعة الشباب فى مصر، والتى وصلت لنسبة 60% من عدد السكان، وفق تصريحات رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، والتى فصلتها تقارير الجهاز، وكشفت أن من تقع أعمارهم بين 18 : 35 عاما فقط يصل عددهم إلى 24.5 مليون، وأن نسبة من تقع أعمارهم تحت40 عاما تبلغ 75% من نسبة السكان بما فيهم سن الطفولة.

وقد أدت مميزات وخصائص وسائل الإعلام الجديد إلى اعتماد معظم هؤلاء الشباب على المعلومات والأخبار من تطبيقات (Facebook, Twitter, YouTube, Google) فى صورها المختلفة من فيديوهات ورسائل نصية وتدوينات.

وكشف تقرير الشباب العربى لعام 2012م ازدياد عدد الشباب الذين يعتمدون على الإنترنت إلى 21.7 مليون شاب مصري، ويستخدمونه يوميا بشكل أساسى كمصدر لمعلوماتهم، وكوسيلة للتواصل، وذلك مقارنة بـ2010/2011م؛ إذ كان عددهم 13.7 مليون، وبالنسبة للـ "فيس بوك" زاد العدد إلى 10.7 مليون، بعد أن كان عددهم في 2010/2011م يبلغ 5.56 مليون شاب، وهذا يشير إلى أن نسبة الانتشار زادت بما يقارب 100% فى عام واحد.

وإذا تأملنا هذه الأرقام سنجد أن غالبية الشباب المصري أصبح يعتمد على وسائل الإعلام الجديد فى تشكيل معرفته وثقافته، فى الوقت الذى تدهور فيه دور المصادر المعلوماتية، والتعليمية، والتثقيفية المحلية الأخرى، التي قد تتسم بالثقة ودقة المعلومات، إلا أنها ابتعدت بخصائصها عن احتياجات الشباب وتطورات العصر.

(ج) ثقافة المواطن الصحفي:

تشير التقارير والأرقام السابقة إلى أن الإعلام الجديد فرض نفسه منافسًا رئيسًا ومهمًا بين البدائل الأخرى، بل وتصدر المشهد بما يملكه من مقومات وخصائص لا تتوفر فى الإعلام التقليدى، فإذا ما كان الإعلام الجماهيري والإعلام الواسع النطاق هو إعلام القرن العشرين؛ فإن الإعلام الشخصي والفردي هو إعلام القرن الجديد.

وتحمل مواقع التواصل الاجتماعي حالة من التنوع في الشكل والنمط والخصائص، خاصة فيما يتعلق بتعظيم حالة الفردية، والتخصيص، كنتيجة لميزة رئيسة، هي: (التفاعلية)، والتى تسمح للفرد العادي بتوصيل رسالته إلى من يريد في الوقت الذي يريده، وبطريقة واسعة الاتجاهات، وليس من أعلى إلى أسفل وفق نماذج الاتصال التقليدية، كل هذه المعطيات أثرت بشكل كبير فى تشكيل واقع ثقافى جديد عززت خصائصه مشاركة المواطن فى صناعته؛ حيث لم يعد مجرد مستقبل للمحتوي الإعلامى والثقافى، بل تحول لمنتج فى أحيان كثيرة.

رابعا: مستقبل الهوية العربية فى شخصية الشباب المصرى:

شكّلت حالة التنوع والتعدد في مصادر المعرفة، والتغير الذي أحدثته أشكال الاتصال والإعلام  الجديدة، ماهية الثقافة المصرية وطابعها العربى؛ وهو ما فرض علينا البحث عن مستقبل الطابع العربى فى شخصية الشباب المصرى، خاصة أن تلك الأنماط الجديدة مستمرة فى التصاعد من حيث انتشارها وتأثيرها؛ وعليه فإن اللغة العربية هي أهم الرموز الرئيسة التي تميز هُويتنا العربية، فمع الأهمية المتزايدة للمحتوى الرقمي في عالم اليوم، تأتي الحاجة إلى ضرورة الاهتمام بكل ما هو مكتوب في هذا العالم التكنولوجي باللغة العربية، فنجد أنه لا تتجاوز نسبته الـ3%، في حين تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت من العرب 14.2%، أي ما يعادل 41 مليون شخص من أصل 300 مليون ناطق باللغة العربية، وهي نسبة قليلة إذا ما قورنت بنسبة المحتوى الرقمي باللغات الأخرى، وذلك طبقا لتقرير صادر عن جامعة الدول العربية عام 2016م، ولعل أبرز مثال على فقدان اللغة قيمتها نسبيا بين الشباب؛ هو انتشار كتابة (الفرانكو أراب) التى ولدت على صفحات التواصل الاجتماعى والتطبيقات التكنولوجية الحديثة.

وبالنسبة إلى مصر يشير تقرير الشباب العربى لعام 2011م، إلى أن 85 % أيدوا ضرورة الاهتمام بقيمنا العربية، بينما 15% أيدوا استعدادهم لاستيعاب أفكار حديثة، وفى تقرير أحدث صدر فى 2014م قفزت نسبة من يرغبون في احتضان عادات وتقاليد جديدة إلى 43%، بينما تناقصت نسبة الشباب المدرك لأهمية الاحتفاظ بالقيم العربية إلى 57%.

وكل هذه الأرقام تمثل مؤشرا لما ستؤول إليه ثقافتنا وهُويتنا العربية في المستقبل، وهى إشكالية تحتاج إلى رصد أوسع وأشمل من كل الجهات المسؤولة والمعنية بالحفاظ على الهوية المصرية العربية، بما يضمن استمرار التواصل مع كل معطيات العصر فى إطار يحفظ ثوابت الثقافة التى تمثل عنصرا أساسيا فى بناء حضارات الدول والحفاظ على مستقبلها.

خامساً: مفاتيح العودة إلى التوازن وسد الثغرات لحماية الهوية:

تؤدي الأسرة والمناخ المنزلى دورا أساسيا وأوليا فى تكوين تصورات الفرد، وأفكاره، ومهاراته، وهى المسؤول الأول عن تعزيز علاقات الأبناء بتاريخهم، وثقافتهم، وهويتهم، من خلال أشكال وطرق التربية الحديثة التى تتلافى عيوب وأخطاء أجيال صنعت حوائط وأسوارا بينها وبين أبنائها عمَّقها عدم إدراكهم لخطورة تركهم دون راعٍ يحميهم من سلبيات الانفتاح الثقافى الإلكترونى.

المدرسة والمعلم مدخلان أساسيان في تكوين أسس بناء شخصية الطالب؛ ولذا لزم القيام بدورهما كاملًا من خلال الاهتمام بالطلاب والحرص على تكوين الرؤية النقدية لديهم، بحيث يستطيعون أن يتعاملوا مع المؤثرات الخارجية كوسائل الإعلام الجديد بأسلوب يجنبهم الوقوع في الانحراف الفكري والسلوكي.

المؤسسات الدينية كالمساجد، والكنائس، عليها أداء دور فعال في غرز الأسس الدينية الصحيحة، بإعادة التفكير في شكل ومضمون الخطاب الديني؛ وذلك لحماية أبنائنا من الوقوع في فخ التطرف الفكري والإرهابي.

المؤسسات الإعلامية من خلال تقديم خدمة إعلامية راقية ومضامين هادفة تحافظ على قيم المجتمع، وتحد من انتشار الجريمة، والانحراف، والتحلل، وتفتح أبواب الحرية والشفافية.

الدولة ممثلة فى وزارات الثقافة، والشباب، والتعليم، لابد من تفعيل دورها في الحفاظ على الهوية المصرية والعربية، من خلال المدارس، وقصور الثقافة، والمسارح، والندوات، والأهم خلق طرق تواصل جديدة مع الشباب تستخدم فيها نفس وسائلهم الحديثة ليصلوا إليه بنفس الطرق التى وصلت بها إليهم الثقافات الأخرى.

صناع الإبداع سواء سينما أو دراما أو أغانٍ، عليهم الارتقاء بالذوق العام، والابتعاد عن الإسفاف، واللغة المتدنية، والفن الهابط السطحي، وتقديم رسالة هادفة من خلال أعمالهم الإبداعية، وتفعيل دور المثقفين، والمفكرين، والمبدعين الحقيقيين، ودخول رجال الأعمال والمجتمع المدنى طرفا داعما للدولة وللمثقفين فى ذلك.

أخيرًا؛ الاهتمام باللغة العربية؛ لأنها الوعاء الدائم لتراثنا وهُويتنا العربية الأصيلة، ورغم أن ذلك لن يأتى إلا بنهضة صناعية وتكنولوجية شاملة، فإن هناك عوامل أخرى لابد أن تؤدي دورها فى ذلك، مثل: مناهج التعليم التى لابد أن تعيد للغة العربية هيبتها فى عقول الطلاب، وكذلك الآباء الذين يتحلمون مسؤولية زرع حب اللغة العربية فى أبنائهم، بالإضافة إلى وسائل الإعلام المعتادة التى يجب أن تعيد صياغة بعض مفرداتها إلى العربية.

الخاتمة:

الثقافة هي المحرك الأساسي للفعل الإنساني، فمقياس تحضر الأمم ورقيّها مرتبط بتقدمها الثقافي بكل ما يشمله اللفظ من دلالات وما يحتويه من معان، ولأن أعمدة بناء الأمم هي الشباب، فإن الحفاظ على الثقافة ونقلها إلى الأجيال الجديدة يعتمد فى نجاحه على مدى استيعاب وإيمان الشباب بتلك الثقافة.

وفى ظل سيطرة وسائل الإعلام الجديد على الشباب تأتى أهمية البحث والتحليل لدور هذه الوسائل، وتأثيرها،ومعالجة سلبياتها، وتدخل المعنيين بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية العربية كطرف فاعل فى علاقة الشباب بتلك الوسائل؛ لضمان عدم انقراض الملامح الأساسية والخصائص الأولية لثقافتنا، مع الحفاظ على المكتسبات الإيجابية من دخولنا عصر الإعلام الجديد الذى سمحت جوانبه الإيجابية بإطلاع الشباب على ثقافات العالم المتقدم، كما يضع أمام الجميع تحديا كبيرا، يتمثل في أن تحافظ على ثراء التبادل الثقافي، وأن تكتسب منه الجيد دون إفراط أو تفريط.

المراجــع:

- دكتور إسلام حجازي، أستاذ العلوم السياسية ( كلية اقتصاد وعلوم سياسية، جامعة القاهرة)، دراسة " الثقافة الافتراضية، وتحولات المجال العام السياسي: ظاهرة الفيس بوك في مصر نموذجا"، ( مصر، 2008).

- الدكتور محمود عبدالرؤوف كامل، "دور الإعلام في البناء الثقافي والاجتماعي للمصريين"، دراسة ميدانية لدور وسائل الإعلام في بناء الشخصية المصرية علي عينة من رواد معرض الكتاب، مدخل تكاملي من نظريات التعلم الاجتماعي والاعتماد على وسائل الإعلام والتنمية، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الثالث عشر لكلية الإعلام جامعة القاهرة، 2007.

الباحثة مها فالح ساق الله، "دور الإعلام الجديد في الثورات العربية"، ضمن متطلبات مساق موضوع خاص في برنامج ماجيستير الصحافة في الجامعة الإسلامية، الجامعة الإسلامية–غزة، كلية الآداب، قسم الصحافة والإعـلام، الدراسات العليا، 2013.

تقرير وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عن العام 2016.

Marwan M. Kraidy and Joe F. Khalil,Youth, Media and Culture in the Arab World, University of Pennsylvania, 2008, Chapter, 20, (p.5, 6, &8).

 Abdulkafi Albirini, Modern Arabic Sociolinguistics, Diglossia, variation, code switching, attitudes and identity, 2016

The John D. and Catherine T. MacArthur Foundation Reports on Digital Media and Learning, “Living and Learning with New Media”, Summary of Findings from the Digital Youth Project by Mizuko Ito, Heather Horst, Matteo Bittanti, danah boyd, Becky Herr-Stephenson, Patricia G. Lange, C. J. Pascoe, and Laura Robinson with Sonja Baumer, Rachel Cody, Dilan Mahendran, Katynka Z. Mart, “The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, London, England, 2009.

ASDA’A Burson Marsteller, Arab Youth Survey, 2009,2010,2011,2012,2013,2014,2015.

Editors, Silja Baller, Soumitra Dutta, and Bruno Lanvin, The Global Information Technology Report 2016, INSEAD, The Business School for the World, JOHNSON Cornell University and World Economic Forum.

                           

About Dalia Ashraf

Check Also

Digitalism, Capitalism, and Contemporary Transformations in Academic Work: An Evaluative Study of Risks and Opportunities (Arabic)

Scroll down for the Arabic abstract. Modern universities have always been an embedded part of …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *